الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
.كتاب الجهاد: 1- عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر, حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف», ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم».فيه دليل على استحباب القتال بعد زوال الشمس وقد ورد فيه حديث أصرح من هذا أو أثر عن بعض الصحابة.ولما كان لقاء الموت من أشق الأشياء وأصعبها على النفوس من وجوه كثيرة وكانت الأمور المقدرة عند النفس ليست كالأمور المحققة لها: خشي أن لا تكون عند التحقيق كما ينبغي فكره تمني لقاء العدو لذلك ولما فيه- إن وقع- من احتمال المخالفة لما وعد الإنسان من نفسه ثم أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة وقد ورد النهي عن تمني الموت مطلقا لضر نزل وفي حديث: «لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد» وفي الجهاد زيادة على مطلق الموت.وقوله عليه السلام: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» من باب المبالغة والمجاز الحسن فإن ظل الشيء لما كان ملازما له جعل ثواب الجنة واستحقاقها عن الجهاد وإعمال السيوف لازما لذلك ن كما يلزم الظل.وهذا الدعاء لعله أشار إلى ثلاثة أسباب تطلب بها الإباحة.أحدها: طلب النصر بالكتاب المنزل وعليه يدل قوله عليه السلام: «منزل الكتاب» كأنه قال: كما أنزلته فانصره وأعله وأشار إلى القدرة بقوله: «ومجري السحاب» وأشار إلى أمرين أحدهما: بقوله: «وهازم الأحزاب» إلى التفرد بالفعل وتجريد التوكل واطراح الأسباب واعتقاد.أن الله وحده هو الفاعل والثاني: التوسل بالنعمة السابقة إلى النعمة اللاحقة وقد ضمن الشعراء هذا المعنى أشعارهم بعدما أشار إليه كتاب الله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] وعن إبراهيم عليه السلام في قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47].وقال الشاعر:وقال الآخر: ما كان يختم بالإساء ** ة وهو بالإحسان بادي2- عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة: خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها».الرباط: مراقبة العدو في الثغور المتاخمة لبلاده.وفي قوله عليه السلام: «خير من الدنيا وما عليها» وجهان.أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس تحقيقا له وتثبيتا في النفوس فإن ملك الدنيا ونعيمها ولذاتها محسوسة مستعظمة في طباع النفوس.فحقق عندها أن ثواب اليوم الواحد في الرباط- وهو من المغيبات- خير من المحسوسات التي عهدتموها من لذات الدنيا.والثاني: أنه قد استبعد بعضهم أن يوازن شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها فحمل الحديث أو ما في معناه على أن هذا الذي رتب عليه الثواب خير من الدنيا كلها لو أنفقت في طاعة الله تعالى وكأنه قصد بهذا أن تحصل الموازنة بين ثوابين أخرويين لاستحقاره الدنيا في مقابلة شيء من الأخرى ولو على سبيل التفضيل والأول عندي أوجه وأظهر.والغدوة: بفتح الغين السير في الوقت الذي من أول النهار إلى الزوال والروحة: من الزوال إلى الليل واللفظ مشعر بأنها تكون فعلا واحدا ولا شك أنه قد يقع على اليسير والكثير من الفعل الواقع في هذين الوقتين ففيه زيادة ترغيب وفضل عظيم.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انتدب الله» , ولمسلم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي وهو علي ضامن: أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة».4- ولمسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله- والله أعلم بمن جاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة».الضمان والكفالة ههنا: عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله سبحانه وتعالى فإن الضمان والكفالة: مؤكدان لما يضمن ويتكفل به وتحقيق ذلك من لوازمها.وقوله: «لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي» دليل على أنه لا يحصل هذا الثواب إلا لمن صحت نيته وخلصت من شوائب إرادة الأغراض الدنيوية فإنه ذكر بصيغة النفي والإثبات المقتضيين للحصر.وقوله: «فهو علي ضامن» قيل: إن فاعلا هاهنا بمعنى مفعول كما قيل في ماء دافق وعيشة راضية أي مدفوق ومرضية على احتمال هاتين اللفظتين لغير ذلك.وقد يقال إن ضامنا بمعنى ذا ضمان كلابن وتامر ويكون الضمان ليس منه وإنما نسب إليه لتعلقه به والعرب تضيف لأدنى ملابسة.وقوله: «أرجعه» مفتوح الهمزة مكسور الجيم من رجعه ثلاثيا متعديا ولازمه ومتعديه واحد قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83].قيل إن هذا الحديث معارض للحديث الآخر وهو قوله عليه السلام: «من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كان قد تعجلوا ثلثي أجرهم وما من غازية أو سرية تغزو فتخفق أو تصاب إلا تم لهم أجرهم» والإخفاق أن تغزو فلا تغنم شيئا ذكر القاضي معنى ما ذكرناه من المعارضة عن غير واحد.وعندي: أنه أقرب إلى موافقته منه إلى معارضته ويبعد جدا أن يقال بتعارضهما نعم كلاهما مشكل أما ذلك الحديث فلتصريحه بنقصان الأجر بسبب الغنيمة وأما هذا فلأن أو تقتضي أحد الشيئين لا مجموعها فيقتضي إما حصول الأجر أو الغنيمة وقد قالوا: لا.يصح أن تنقص الغنيمة من أجر أهل بدر وكانوا أفضل المجاهدين وأفضلهم غنيمة ويؤكد هذا تتابع فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده على أخذ الغنيمة وعدم التوقف عنها.وقد اختلفوا بسبب هذا الإشكال في الجواب فمنهم من جنح إلى الطعن في ذلك الحديث وقال: إنه لا يصح وزعم أن بعض رواته ليس بمشهور وهذا ضعيف لأن مسلما أخرجه في كتابه ومنهم من قال: إن هذا الذي تعجل من أجره بالغنيمة في غنيمة أخذت على غير وجهها قال بعضهم وهذا بعيد لا يحتمله الحديث وقيل إن هذا الحديث أعني الذي نحن في شرحه شرط فيه ما يقتضي الإخلاص والحديث الذي في نقصان الأجر يحمل على من قصد مع الجهاد طلب المغنم فهذا شرك بما يجوز له التشريك فيه وانقسمت نيته بين الوجهين فنقص أجره والأول أخلص فكمل أجره.قال القاضي: وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجهيهما أيضا إن نقص أجر الغانم بما فتح الله عز وجل عليه من الدنيا وحساب ذلك بتمتعه عليه في الدنيا وذهاب شظف عيشه في غزوه وبعده إذا قوبل بمن أخفق ولن يصب منها شيئا وبقي على شظف عيشه والصبر على غزواه في حاله وجد أجر هذا أبدا في ذلك وافيا مطردا بخلاف الأول ومثله في الحديث الآخر: «فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها».وأقول أن التعارض بين الحديثين فقد نبهنا على بعده فأما الإشكال في الحديث الثاني فظاهره الجار على القياس لأن الأجور قد تتفاوت بحسب زيادة المشقات لاسيما ما كان أجره بحسب مشقته أو لمشقته دخل في الأجر وإنما يشكل عليه العمل المتصل بأخذ الغنائم فلعل هذا من باب تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض فإن ذلك الزمن كان الإسلام فيه غريبا أعني ابتداء زمن النبوة وكان أخذ الغنائم عونا على علو الدين وقوة المسلمين وضعفاء المهاجرين وهذه مصلحة عظمى قد يغتفر بعض النقص في الأجر من حيث هو هو.وأما ما قيل في أهل بدر فقد يفهم منه أن النقصان بالنسبة إلى الغير وليس ينبغي أن يكون كذلك بل ينبغي أن يكون التقابل بين كمال أجر الغازي نفسه إذا لم يغنم وأجره إذا غنم فيقتضي هذا أن يكون حالهم عند عدم الغنيمة أفضل من حالهم عند وجودها لا من حال غيرهم وإن كان أفضل من حال غيرهم قطعا فمن وجه آخر لكن لابد من هذا من اعتبار المعارض الذي ذكرناه فلعله مع اعتباره لا يكون ناقصا ويستثنى حاله من العموم الذي في الحديث الثاني أو حال من يقاربهم في المعنى.وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإشكاله من كلمة (أو) أقوى من ذلك الحديث فإنه قد يشعر بأن الحاصل إما أجر وإما غنيمة فيقتضي أنه إذا حصلنا الغنيمة يكتفى بها له وليس كذلك.وقيل في الجواب عن هذا بأن أو بمعنى الواو وكأنه التقدير بأجر وغنيمة وهذا وإن كان فيه ضعف من جهة العربية ففيه إشكال من حيث إنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين كان ذلك داخلا في الضمان فيقتضي أنه لابد من حصول أمرين لهذا المجاهد إذا رجع مع رجوعه وقد لا يتفق ذلك بأن يتلف ما حصل في الرجوع من الغنيمة اللهم إلا أن يتجاوز في لفظة الرجوع إلى الأهل أو يقال: المعية في مطلق الحصول لا في الحصول في الرجوع.ومنهم من أجاب بأن التقدير أو أرجعه إلى أهله مع من نال من أجره وحده أو غنيمة وأجر فحذف الأجر من الثاني وهذا لا بأس به لأن المقابلة إنما تشكل إذا كانت بين مطلق الأجر وبين الغنيمة مع الأجر وأما مع الأجر المفيد بانفراده عن الغنيمة فلا.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك».الكلم: الجرح ومجيئه يوم القيامة مع سيلان الجرح فيه أمران.أحدهما: الشهادة على ظلمه بالقتل الثاني: إظهار شرفه لأهل المشهد الموقف بما فيه من رائحة المسك الشاهدة بالطيب وقد ذكروا في الاستنباط من هذا الحديث أشياء متكلفة غير صابرة على التحقيق.منها: أن المراعى في الماء تغير لونه دون تغير رائحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الخارج من جرح الشهيد دما وإن كان ريحه ريح المسك ولم يكن مسكا فغلب الاسم لونه على رائحته فكذلك الماء ما لم يتغير طعمه لم يلتفت إلى تغير رائحته وفي هذا نظر يحتاج إلى تأمل.ومنها ما ترجم البخاري فيما يقع من النجاسات في الماء والسمن قال القاضي: وقد يحتمل أن حجته فيها الرخصة في الرائحة كما تقدم أو التغليظ بعكس الاستدلال الأول فإن الدم لما انتقل لطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة ومن حكم القذارة إلى التطييب بتغير رائحته وحكم له بحكم المسك والطيب للشهيد فكذلك الماء ينتقل إلى العكس بخبث الرائحة وتغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة.ومنها: ما قال القاضي: ويحتج بهذا الحديث أبو حنيفة في جواز استعمال الماء المضاف المتغيرة أوصافه بإطلاق اسم الماء عليه كما انطلق على هذا اسم الدم وإن تغيرت أوصافه إلى الطيب قال: وحجته بذلك ضعيفة وأقول: الكل ضعيف.6- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» أخرجه مسلم.7- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» أخرجه البخاري.قد تقدم الكلام على هذا المعنى في حديث مضى.
|